عندما
كنت فتاة غير متزوجة كنت كثيرة الدعاء بأن يجعل الله زواجي وسيلة للالتزام
أكثر بدين الله. وكنت متيقنة من أن الله لن يخذل مسلما في أمر يدعو به ؟
لماذا
لم أبق على حالي على الأقل بدون زيادة؟ لماذا النقصان والتراجع في
العبادة؟ هل هذا الشيء خير لي أم أنه شر؟ هل هذا عقوبة أم ابتلاء؟ رغم أني
لا أذكر أني آذيت أحدا في حياتي، وإن حصل ذلك مني فهو من غير قصد. هل هذا
كله يمكن أن يكون أيضا سببا في تغير شخصيتي وزيادة ضعف إرادتي؟ وسببا أيضا
للآلام الجسدية التي أعاني منها؟
عندما أتذكر
كيف كنت قبل زواجي أرى أن هناك فارقا كبيرا، بل وانقلابا في كل شيء في
حياتي، وفي كل صفاتي. أردت أن أكمل نصف ديني ولكني للأسف فقدت النصف الأول؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية
ينبغي أن نؤكد على معنى نستصحبه دائما ونبني عليه أصل رؤيتنا للمشكلة، وهو
أن العبد يجب أن يتهم نفسه وينزه ربه سبحانه، ويعلم أن كل ما هو من نفسه
يوجب اعتذارا واستغفارا، وأما ما كان من الله فهو يوجب شكرا وانكسارا، قال
تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ {النساء: 79}
فالعبد
لا يؤتى أبدا من قِبل الله تعالى، وإنما يؤتى من قِبل نفسه، ولذلك ينبغي
أن يفتش فيها إذا رأى ما يكرهه، فإن الله تعالى قد قال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ {الأنفال: 53} وقال: إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ
لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ {الرعد: 11}
قال ابن القيم في (طريق الهجرتين): إِن
الله سبحانه قضى فيما قضى به أَن ما عنده لا ينال إِلا بطاعته، وأَنه ما
استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت
بغير معصيته، وكذلك إِذا أَنعم عليك ثم سلبك النعمة فإِنه لم يسلبها لبخل
منه ولا استئثار بها عليك، وإِنما أَنت المسبب في سلبها عنك، فإِن الله لا
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأَنفسهم.. فما أُزيلت نعم الله بغير معصيته..
فآفتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأَنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك،
وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك. اهـ.
وهذا
التغير ليس بالضرورة أن يكون تفريطا في حق الله الظاهر، فقد يكون في حقوق
العباد، وقد يكون باطنا لا ظاهرا، كفوات بعض أعمال القلوب الواجبة
كالإخلاص والتوكل، أو وجود بعض أعماله المحرمة كالرياء والعجب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا
التغيير نوعان: أحدهما: أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم
والعقاب. والثاني: أن يغيروا الإيمان الذي في قلوبهم بضده من الريب والشك
والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله. فيستحقون العذاب هنا
على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور. وكذلك ما في النفس مما يناقض
محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور
كلها واجبة، فإذا خلا القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه
الواجبات اهـ.
والحال
إن كان على هذا النحو، فأول الخطوات على طريق الإصلاح أن يبدأ العبد
بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله تعالى، ثم المبادرة إلى الأعمال الصالحة
ومجاهدة النفس وإلزامها حدود التقوى. وهذا لا يكون إلا بالاستعانة بالله
تعالى وصدق التوكل عليه، وحسن الظن به، والإلحاح في الدعاء والتضرع
والاستكانة والإخبات والإنابة، وغير ذلك من لوازم صدق العزم على تحقيق
الاستقامة، واليقين بأن الله تعالى يهدي من يشاء رحمة منه وفضلا، ويضل من
يشاء حكمة منه وعدلا.
ولا
يخفى أن ما ذكرنا إنما هو احتمال لكون ما ذكرته السائلة إنما هو من باب
العقوبة على تغير حالها مع الله تعالى، وإلا فيحتمل أنه ابتلاء للتمحيص
والاختبار، وهذا إن كان فهو رحمة الله تعالى رغم شدته على النفس ومرارته
في القلب.
قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): مما
ينبغي أن يعلم أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن
كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق
عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك .. ولهذا كان من تمام رحمة أرحم
الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد؛ فإنه أعلم بمصلحته فابتلاؤه له
وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته ـ من رحمته به، ولكن العبد
لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه
... كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله وجود جميع الخلائق في جنب
جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها.
فمن
رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية، لا حاجة منه
إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه
فهو الجواد الكريم.
ومن
رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها،
ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء
والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
ومن
رحمته بهم: أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته
به، كما قال تعالى: (ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) قال غير واحد
من السلف: من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به. اهـ.
وأما ما يتعلق بالدعاء وتأخر إجابته أو امتناعها، فراجعي للأهمية الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 123662، 111052، 125921.
هذا
ونلفت نظر السائلة إلى أمر محتمل ولو من بعيد، حيث ذكرت أنها تعاني من
آلام جسدية، فإن هذا يحتمل أن يكون سببه بعض بني آدم، كالإصابة بالعين
ونحو ذلك. ولا نقول ذلك خروجا عن الموضوع ولا تشتيتا لذهن السائلة، ولكن
لأن علاج ذلك لا يخرج عن ما سبق، بل هو داخل فيه، حيث يعتمد على صدق
التوكل على الله وحسن الظن والاستعانة به والمحافظة على تلاوة الأذكار
بتدبر وفهم واستحضار، مع الإلحاح في الدعاء واستعمال الرقية الشرعية،
وراجعي الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 110420، 48991، 7151.
والله أعلم.